الاثنين 06 مايو 2024

لهذا فُضّل شهر رمضان على الشهور كلها

ⓒ ramadan

اقْتَضَتْ حِكْمة الحقِّ -تبارك وتعالى- أن يُفَضِّلَ بعض الشهور على بعض، فَفَضَّلَ شهر رمضان على سائر الشُّهور، واخْتَصَّه بِمَزايا مُتَعدِّدة، حيث أنزل فيه القرآن الكريم؛ فقالتعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآَنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} [البقرة: 185]، وجَعَل فيه ليلةَ القدر؛ وهي خيرٌ مِن ألف شهر، واخْتَصَّهُ بِفَريضةٍ عظيمةِ الشأن؛ وهي فريضةُ الصِّيام.
ولو تأمّلنا في الصِّيام، نَجِد أنَّه يختلف عَنْ سائرِ العِبَادات في خاصيّة هامَّة، وهي خُلُوُّه منَ الرِّياء، فقد يدخل الرِّياء في الصَّلاة، أوِ الزكاة، أوِ الحج؛ لأنَّها عِبادات تُؤَدَّى بأفعال ظاهريَّة، يراها الناس، أمَّا الصَّوم فإنه لا يُؤَدَّى بِفِعْل، ولكن بالكَفِّ عن فعل، وهو الامتناعُ عَنْ تناوُل المفطرات، ومِن هنا فإنَّ الصَّائمَ لا يعلم بِحَقِيقة صَوْمه إلاَّ اللهُسبحانه المُطَّلِع على سَرِيرَتِه وقَلْبه؛ لذا يقول سبحانه في الحديث القُدسي، الذي رواه أبو هريرة، عنْ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم: “كلُّ عَمل ابن آدم له، إلاَّ الصَّوم، فإنَّه لي، وأنا أجزي به”متّفق عليه.
والصِّيام يُعَدُّ مدرسةً مِن أعظم المدارس، التي يَتَعَلَّم فيها المسلم الكثيرَ منَ الدُّروس النافعة المُفِيدة، وهو مدرسة أَنْشَأَها الله سبحانه وتعالى لِعِبادِه المؤمنين، ودعاهم إلى دُخُولِها في قولهتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183].
وقد جَعَل الدِّراسة بها شهرًا مِن كل عام، فقالتعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآَنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185].
وأمَّا منهج الدِّراسة في هذه المدرسة، فهو مُحَدَّد في الإمساك عنِ الطَّعام، والشَّراب، وشهوة الفَرْج، مِن طُلُوع الفَجْر إلى غُرُوب الشمس، {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187].

ولو نَظَرْنا إلى العَنَاصر التي تدخل هذه المدرسة الإلهيَّة مِنَ المؤمنينَ، نجد أنَّ الله جلّ وعلا صاحب المَدْرسة، جَعَل الدُّخول فيها إِجْباريًّا على المُكَلَّفينَ القادرينَ، واشْتَرَط أن يكونَ الداخل فيها مسلمًا بالغًا عاقِلاً، وأن تكونَ المرأة طاهِرةً منَ الحَيْض والنِّفاس، وقَرَّر أنَّه مَن تَخَلَّفَ عن دُخُولها مِن هؤلاءِ القادرين دون عذر، فله عواقب وخيمة؛ حيث إنَّه أَهْدَر رُكْنًا أساسيًّا من أركان الإسلام الخَمْسة، فقد رَوَى أبو داود، والترمذي، عن أبي هريرة، أنَّ الرَّسولصلى الله عليه وسلم قال: “مَن أفطر يومًا في رمضان من غير رُخْصَة، ولا مرض، لا يجزِهِ صوم الدهر كلّه، وإن صامه”.
ومن ثمّ فإنه توجد عناصر أُخر لها أحكام تخصّها، وهم أصحاب الرخص؛
أمَّا غير المسلم البالغ العاقل الصحيح المُقيم، فلا إجبارَ عليهم في دخول مدرسة الصِّيام، ولهم أحوال مُتَعَدِّدة، تَتَمَثَّل في الآتي:
1 – مَن حُرِّمَ عليه الصيام مطلقًا، مثل: الكافر، والمجنون.
2 – مَن يَجِب عليه الفطر والقضاء كالحائض، والنُّفَساء.
3 – مَن يُرَخَّص له بالفطر، ويجب عليه القضاء: كالمسافر، والمريض الذي يُرْجَى شِفَاؤُه، قال تعالى: {وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 185].
4 – مَن يرخّص له بالفطر، ويَجِب عليه الفِدْية: كالشيخ الكبير، والمرأة العجوز، والمريض الذي لا يُرْجَى شِفاؤُه، والمرأة الحامل، أوِ المرضع إذا خافَتْ على نفسِها وطِفْلها، وهؤلاءِ يطعمون عن كلِّ يومٍ مسكينًا.
5 – مَن يُطْلَب مِن وَلِيه أن يأمره بالصِّيام، كالصَّبي.
ورغم هذه الرُّخَص المُتَعَدِّدة للفطر في رمضان، فقد أباح جلّ وعلالِمَن رَخَّص لهم بالفِطر الدخول في مدرسة الصيام، إنِ استطاعوا؛ لأنَّ في الصِّيام خيرًا لهم، فقالتعالى: {وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 184].

 مَرَاتب الصِّيام:
وأمَّا مراتب الصِّيام في هذه المدرسة الإلهيَّة، فقد قَسَّمَها الإمام الغزالي في “إحياء علوم الدِّين” إلى ثلاث مراتب هي:
1 – صوم العُمُوم: وهو الصَّوم الذي يشترك فيه كلُّ الناس على اختلافِهم، ويَتَمَثل في الإمساك عنِ الطَّعام، والشَّراب، وشهوة الفَرْج.
2 – صوم الخُصُوص: وهو صوم الصَّالحين، ويزيد على صوم العُمُوم صوم بقيَّة الجوارح، بمعنى كَفِّها عنِ الآثام والمعاصي؛ فقد رَوَى البخاري، وأبو داود، والترمذي، عن أبي هريرةرضي الله عنه أن َّرسول اللهصلى الله عليه وسلمقال: “مَن لم يَدَع قول الزُّور، والعمل به، فلَيْسَ لله حاجة في أن يَدَعَ طعامَه وشَرَابه”.
3 – صوم خُصُوص الخُصُوص: وهو صوم الأنبياء والصِّدِّيقينَ والمُقَرَّبينَ، الذين يجمعون ما سبق منَ الصَّوْمَيْنِ، بِجانب صوم القلب عنِ الهِمم الدَّنيَّة، والأفكار الدنيويَّة.

دروس عظيمة:

وإذا ما دخل المسلم مدرسة الصيام، فإنَّه يَتَعَلَّم فيها دروسًا عظيمةَ الشأن، لا يجدها في أيِّ مدرسةٍ دنيويةٍ، وهذه الدروس تَتَمَثل في الآتي:
1 – تقوى الله: فالتَّقْوى هي الغاية العُظْمى من وَرَاء الصِّيام؛ لذلك قال سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183].
وتَظْهَر التَّقْوى في الخَشْية منَ الله، ومُرَاقبته في كلِّ الأعمال، والالْتِزام بِأَوَامِره ونَوَاهِيه، وقد عَرَّفَها الإمام عليٌّ، في قوله: “التقوى هي: الخوف منَ الجليل، والعمل بما في التنزيل، والرضا بالقليل، والاستعداد لِيَوم الرَّحيل”.
والصَّوم بلا شك يُوَرِّث الخشية، ويُنَمِّي مَلَكة المُرَاقبة، ويُوقِظ الضَّمير، ويدفع صاحِبَه إلى الامتثال لأوامِر الله ونَوَاهِيه.

2 – قوة الإرادة والصَّبر والتَّحَمُّل: فالصَّوم فيه مَشَقَّة منَ الجوع والعَطَش، وفيه مُقَاوَمة للشَّهوات والمَلَذَّات، وصَبْر عليها، وهذه الأمور تُقَوِّي الإرادة، وترفع مِن قُوَّة التَّحَمُّل والصَّبر.
3 – الانضباط: حيث إنَّ الصَّائم هو الرقيب على نفسه، فلا أحد يعلم بِكَوْنه صائمًا، أو غير صائم إلاَّ الله، ومِن هنا يصل المسلم إلى مرحلة الانضباط والرقابة الداخليَّة في كل عَمَل يقوم به، ولا يحتاج إلى رقابة خارجيّة.
4 – جِهاد النَّفس والشيطان: فالنَّفس عَدُوَّة لِصَاحِبها، وكذلك الشيطان، وهما يعتمدان في إِغْرائهما للإنسان على الشَّهوات، والصَّوم فيه امتناعٌ عن هذه الشَّهَوات، وكأنَّ المسلم حين يصوم، فإنَّه يسد أبواب النَّفس والشيطان إلى قلبه، وهنا يَتَحَقَّق معنى الجهاد.
5 – الصوم جُنَّة: الوِقاية منَ المنكرات والشُّرور، فالصَّوم الحقيقي فيه إمساكٌ عَنْ جميع المعاصِي والسَّيئات، حيث تصوم جميع الجَوَارِح، وتنضبط؛ لذلكَ قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه البخاري، وأبو داود: “الصِّيام جُنَّة، فإذا كان يوم صوم أحدكم، فلا يرفث، ولا يصخب، ولا يجهل، وإنِ امرؤٌ قاتَلَه، أوْ شَاتَمَه، فَلْيَقُل: إنِّي صائم”. وبِهذا يكون الصيام درسًا عَمَليًّا في أَخْذ النَّفس بِالفَضَائل، وحَمْلها على الاتِّصاف بِكُلِّ ما هو حسن وجميل، وبذلك تزكو وتطهر، ويصبح الإنسان مأمول الخير، مأمون الشَّر.
6 – إضعاف سلطان العادة: فَفِي بعض الأحيان، يَتَعَوَّد المسلم على عادة سيئةٍ، مثل: عادة التدخين، ويُمَارِسها بِشَكْل مُتَوَاصل، فيأتِي الصِّيام ويَحُول بينه وبين هذه العادة بالتدريج، ويضعف سلطانها على نفسه، ويُسَاعده على التَّخَلُّص منها، وهنا نقول: إنَّ رمضان فرصةٌ ذهبيَّة للمُدَخِّنين؛ كي يُقْلِعوا عن هذه العادة الضارَّة بالنَّفس والمال.
7 – الإحساس بالفُقَراء: إحساس الأغنياء بآلام الفقراء، فالصِّيام يُفَجِّر ينابيع الرحمة والعطف في قُلُوب الأغنياء، ويدفعهم إلى مُوَاساة الذين ضاقَتْ بِهِم سُبُل العيش، بعد أن أَحَسوا بِأَلَم الجوع، ولهذا كان يوسفعليه السلام يُكْثِر منَ الصِّيام، فقيل له: لماذا تَجُوع، وأنت على خزائن الأرض؟ قال: “أخاف أن أشبعَ، فأنسى الجائع”.
وَحَوْل هذا المعنى يقول أمير الشعراء أحمد شوقي: “الصَّوم حِرْمانٌ مشروع، وتَأديب بالجُوع، وخُشُوع لله وخُضُوع، لكلِّ فريضةٍ حكمة، وهذا الحكم ظاهره العذابُ، وباطِنه الرَّحمة، يُعَوِّد الإنسانَ الصَّبْرَ، ويُعَلِّمه خِلال البِر، فإذا جاع مَن أَلِف الشَّبع، عَرَف الحرمان كيف يقع، والجوع كيف أَلَمُه إذا لَذَع”.
8 – الصَّوم وصِحَّة الجسد: فالصَّوم فيه صحَّةٌ للجسد، وقد أثبت الطِّبُّ الحديث فوائده المتعددة، حيث إن المَعِدة بيت الداء،”وما ملأ ابن آدم وعاءً شرًّا من بطنِه”، كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم فالإِكثار منَ الطَّعام له مضارٌّ ظاهريَّة، وأمراض كثيرة، والصَّوم يُؤَدِّي إلى صحَّة الجسد.
ولا تَنْتَهي الدروس التي يَتَعَلَّمها المسلم من مدرسة الصيام عند هذا الحدّ؛ ولكن هناك دروسًا لا تُحْصى، فالصَّوم فيه معنى المُسَاوَاة بين الأغنياء والفقراء في الحرمان، وترك التَّمَتُّع بالشَّهوات، وفيه إشعارٌ بِوَحْدة المسلمينَ، حيث إنَّ كُلَّ المسلمين في جميع بقاع الأرض يصومون هذا الشهر العظيم.

 جوائز الصيام:

وأمَّا الجوائز التي يخرج بها المسلم من مدرسة الصيام، فهي كثيرةٌ ومُتَعَدِّدة، نأخذها من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم فقد روى البخاري، عن أبي هريرةرضي الله عنه أنَّ رسول اللهصلى الله عليه وسلمقال: “مَن صام رمضان إيمانًا واحتسابًا، غُفِر له ما تَقَدَّمَ من ذنبه”، وروى مُسلم، عن أبي هريرة، أنه صلى الله عليه وسلم قال: “الصَّلَوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان، مُكَفرات لما بَيْنَهُنَّ إذا اجْتُنِبَتِ الكبائر”.
وبِجَانب المغفرة، وتكفير الذنوب، نجد أنَّ الصِّيام يشفع لِصَاحِبه يوم القيامة، فقد روى أحمد بِسَندٍ صحيح، عن عبدالله بن عمرو: أنَّ رسول اللهصلى الله عليه وسلمقال: “الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة، يقول الصِّيام: منعتُه الشهوات بالنهار، فَشَفِّعْنِي فيه، ويقول القرآن: مَنَعْتُه النَّوم بالليل، فَشَفِّعْنِي فيه، فيشفعان”.

وروى البخاري ومُسلم، عن سهل بن سعد، أن رسول الله صلى الله عليه وسلمقال: “إنَّ في الجنة بابًا يدعى الرَّيَّان، لا يدخل منه إلاَّ الصائمون”.

ولا تَتَوَقَّف الجوائز عند هذا الحدّ، ففي رمضان يُزَاد رِزق المؤمن، وللصائم عند فطره دعوة لا تُرَدّ، وخصلة الخير في هذا الشهر كالفريضة في غيره، والفريضة فيه بِسَبعين فريضة.

فجديرٌ بِكُل مسلم أن يدخل مدرسة الصيام إيمانًا واحتسابًا، وأن يُكْثِر من خصال الخير في هذا الشَّهر، ويَتَعَلم من هذه المدرسة ما ذكرناه من دروسٍ؛ حتى يَحْصُل على جوائز الصيام التي تعود عليه بالخير، في دنياه وأُخْرَاه.

شارك برأيك

هل سينجح “بيتكوفيتش” في إعادة “الخضر” إلى سكّة الانتصارات والتتويجات؟

scroll top