الجمعة 17 مايو 2024

خلفيات الانقلاب الإسباني الكبير في قضية الصحراء

الانقلاب

فاجأ الانقلاب الدراماتيكي في الموقف الإسباني من قضية الصحراء الغربية، بعد تبني حكومة بيدرو شانشيز المقاربة المغربية للحكم الذاتي والتي

ⓒ الانقلاب
كاتب صحفي

فاجأ الانقلاب الدراماتيكي في الموقف الإسباني من قضية الصحراء الغربية، بعد تبني حكومة بيدرو شانشيز المقاربة المغربية للحكم الذاتي والتي تستبعد مطلب الاستفتاء لتقرير مصير الشعب الصحراوي، كل المراقبين والمحللين، بالنظر إلى أهمية الموقف الاسباني باعتباره المحتل السابق للمنطقة، وكذا تشابك علاقات مدريد مع أطراف النزاع الصحراوي، حيث تخاطر مدريد بموقفها المفاجئ هذا وهي تسعى لاكتساب ود الرباط، بخسارة الدولة الجزائرية والشعب الصحراوي بشكل كبير.

ولعل ما يثير الانتباه في هذا الانقلاب الإسباني الكبير على مواقف الدولة الاسبانية التقليدية لعشرات السنين، أنها تأتي في سياق ظروف جيوسياسية غاية في التوتر باندلاع حرب في قلب أوروبا بين روسيا وأوكرانيا، شرعت خلالها أوروبا ومن خلفها الولايات المتحدة في استخدام “سلاح الطاقة”، على نطاق واسع لخدمة الحلف الغربي على حساب روسيا وحلفائها، بما ينذر أن الجزائر التي رفضت بشدة كل الضغوط الأمريكية والأوربية للدخول في لعبة تعويض الغاز الروسي على أوروبا، من خلال رفضها إعادة فتح أنبوب غاز المغرب العربي الذي يمر عبر الأراضي المغربية، سيجعلها محل ابتزاز ومساومة حقيرة من طرف الشركاء الغربيين، حتى ولو استدعى الأمر استعمال ورقة الصحراء الغربية في مثل هذه المعركة القذرة، حيث يبرز النفاق الغربي وتناقضه بين دعوته المحمومة لمعارضة الاحتلال الروسي لأوكرانيا، في مقابل دعمه الوقح للاحتلال المغربي للصحراء الغربية.

أسباب التحول والخيانة التاريخية الثانية

وقبل الخوض في أسباب هذا الانقلاب الإسباني حول قضية الصحراء الغريبة، والذي اعتبرته الجزائر بأنه بمثابة “خيانة تاريخية ثانية للشعب الصحراوي، بعد الخيانة الأولى التي وقعت 14 نوفمبر عام 1975 حين وقعت إسبانيا والمغرب وموريتانيا اتفاقية لتقسيم الصحراء الغربية بين المغرب وموريتانيا”، من المهم الإشارة إلى أن هذا التحول الإسباني قد يكون مفاجئا وربما مفروضا على حكام إسبانيا أنفسهم، خاصة وأن رئيس الحكومة الاسبانية بيدرو سانشيز، كان يبدي سلوكا مختلفا تماما قبل أيام فقط من هذا التحول، حيث وبعد أن استقبل الرئيس الصحراوي في بروكسل لأول مرة، تحدث قبل أسبوع هاتفيا مع الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون، ليعبر له فيها عن ثقته في العلاقات مع الجزائر ووصفها بأنها شريك موثوق في مجال الطاقة.

ويمكن قراءة أسباب هذا التحول المفاجئ في مجمل القضايا المتشابكة التي تحيط بأحداث المنطقة كالتالي :

1/ أن الحرب الروسية الأوكرانية فرضت معادلة صراع جديدة، أجبرت إسبانيا المنتمية للاتحاد الأوربي، والواقعة جميعها تحت الهيمنة الأمريكية، أن تخضع للضغوط الأمريكية بضرورة تعويض الغاز الروسي لأوربا من خلال منتجين آخرين وعلى رأسهم الجزائر القريبة من الضفة الجنوبية لأوربا، ولأن الجزائر رفضت كل الضغوط التي مورست عليها في هذا الاتجاه، كما رفضت فتح خط أنبوب الغاز المغاربي الذي تم إغلاقه في ديسمبر 2021، كان على إسبانيا أن تخضع للأوامر الأمريكية وتخاطر باستخدام الورقة الصحراوية ضد الجزائر على الرغم من كون هذه الأخيرة مصدرا لنصف واردات مدريد من الغاز.

وقد تأكد الآن، بعد مرور عدة أيام من زيارة وكيلة الخارجية الأمريكية ويندي شيرمان إلى الجزائر في إطار جولة نقلتها إلى الرباط ومدريد، أن حقيبتها كانت تحمل هذه القنبلة الموقوتة، وأن رفض الجزائر لتلك الضغوط كان من نتائجه المباشرة هذا الانقلاب الإسباني على مواقف الدولة الإسبانية نفسها، قبل أن يكون انقلابا على مصالح الجزائر والشعب الصحراوي.

2/ وقوع إسبانيا ضحية مساومة مخزنية رخيصة، بهدف استئناف العلاقات الدبلوماسية العادية والجيدة مع الرباط، شريطة الاعتراف بالمقاربة المغربية للحل في الصحراء الغربية ودعم مقترح الحكم الذاتي بدل الاستفتاء لتقرير المصير، خاصة وأن المخزن مارس مساومة أكثر رخصا مع الولايات المتحدة، بعرضه التطبيع مع إسرائيل مقابل اعتراف ترامب بمغربية الصحراء.

3/ رضوخ مدريد للابتزاز المخزني في موضوع الهجرة السرية، حيث استعمل المخزن صنبور الهجرة السرية بشكل وقح جدا لإحراج إسبانيا عبر فتح المجال أمام آلاف المهاجرين السريين بمن فيهم الأطفال للعبور إلى سبتة ومليلة، وقد توضح ذلك جليا عقب أزمة دخول الرئيس الصحراوي لإسبانيا العام الماضي للعلاج، وقيام المخزن باستعمال هذا السلاح من أجل اعتقاله ومحاكمته لكنه فشل وقتها.

4/ محاولة تطويق الجزائر استراتيجيا باعتبارها حليفا تقليديا لروسيا التي يعاديها الغرب اليوم بشكل غير مسبوق، من خلال تكالب مزيد من القوى المناوئة بعد جلب الكيان الصهيوني للمنطقة، عبر استغلال مشكلة الصحراء وإدخال أكبر عدد ممكن من الدول الأوربية ضمن دائرة التأييد للمخزن على غرار فرنسا وحديثا ألمانيا وإسبانيا.

خيارات الجزائر للرد

أمام هذه التطورات المفاجئة وغير المتوقعة، تجد الجزائر اليوم نفسها أمام خيارات صعبة، إلا أن الفصل فيها لن يكون إلا بعد توضح الصورة في الحرب الأوكرانية الروسية، ذلك أن هزيمة استراتيجية لروسيا كما يسعى الغرب إلى ذلك، ستكون لها عواقب سيئة على الجزائر، والعكس صحيح، ومع ذلك كان الواجب اتخاذ خطوات مبدئية محسوبة، في انتظار اتضاح الصورة في المستقبل القريب.

ويمكن اعتبار دعوة الجزائر سفيرها في مدريد بشكل عاجل للتشاور، واحدة من الخطوات الأولية التي يمكن القيام بها في الوقت الراهن، للتعبير عن الموقف الجزائري من هذه التطورات، كما تدل بعض المصطلحات في قراءة بيانات الخارجية وباقي المواقف الرسمية الأخرى عن درجة الغضب الذي يعتمل في الجزائر، على غرار مصطلحات “خيانة”، “مقايضة حقيرة” وغيرها، وهو ما ينذر بإمكانية تحول تلك العبارات الغاضبة إلى مواقف ملموسة في القريب، خاصة وأن المنطقة ككل تعرف توترا شديدا بعد قطع العلاقات الدبلوماسية بين الجزائر والرباط، وعودة الحرب مجددا إلى الساحة الصحراوية منذ نوفمبر 2020.

ولعل ما زاد في غضب الجزائر، ادعاءات مدريد بأنها أخطرت الجزائر قبل اتخاذها قرار التحول المفاجئ في قضية الصحراء، وهو ما نفته الجزائر نفيا قاطعا، على اعتبار أن التشاور أو على الأقل الإخطار قبل اتخاذ مثل هذا القرار قد يمنع أعمالا انتقامية من الجزائر، في ما يتعلق بالموقف من إمدادات الغاز الجزائري إلى إسبانيا.

إقرأ أيضا: إسبانيا “تتودد” للجزائر وتبرر “انقلابها” على الصحراويين

بالنسبة للرأي العام في إسبانيا والإعلام الاسباني، فإن غضب الجزائر قد يهدد بالفعل إمدادات الغاز إلى إسبانيا بشكل دراماتيكي، بالنظر إلى أن الأزمة السياسية التي وقعت بين الرباط والجزائر دفعت هذه الأخيرة إلى قطع أنبوب الغاز العابر عبر الأراضي المغربية كطريقة للعقاب المباشر، وهو ما يعني أن إسبانيا تخاطر بحوالي نصف إمداداتها من الغاز القادم من الجزائر باتخاذ خطوة كهذه.

لكن هل مدريد لم تحسب حساب ذلك؟ بالتأكيد هناك حسابات لكل شيئ، فالولايات المتحدة التي تكون تحرك خيوط اللعبة من وراء ستار، لا بد أنها عرضت على مدريد بدائل الغاز الجزائري بما تتوفر عليه من احتياطيات الغاز الصخري، كما أن عدم قدرة الجزائر على تسويق الغاز بواسطة البواخر إلى مناطق بعيدة سوف يحد من قدرتها على معاقبة إسبانيا في هذا الاتجاه، لأن ذلك يعني أن الجزائر ستعاقب نفسها أيضا من حيث أرادت معاقبة مدريد، وبالتالي يحتاج الأمر إلى دراسة وردود فعل عاقلة وغير انفعالية.

لقد فهمت الجزائر أخيرا الرسالة الإسبانية التي أرسلت لها قبل حوالي شهر، عندما أعلنت الحكومة الإسبانية في شهر فيفري الماضي، موافقتها على طلب المغرب للمساعدة في ضمان أمن الطاقة من خلال إعادة تحويل الخام المسال إلى غاز في إسبانيا.. عندها اعتقدت الجزائر أن القضية منفصلة عن لعبة التآمر، فردت بأنها ترفض تحويل أي ذرة غاز جزائري إلى المغرب بأي طريقة، غير أن القرار الإسباني اليوم بخصوص الصحراء الغربية، كشف أن القضية أعمق وأعقد بكثير.

ما هي آفاق المستقبل؟

الآن علينا أن نطرح السؤال الأساسي، هل أصبح مستقبل الصحراء الغربية بعد هذا التحول الإسباني الكبير بيد المخزن فعلا؟ الاجابة بالطبع لا.. فالصراع في أوكرانيا لم يحسم بعد لفائدة أي طرف ولا يمكن لحلفاء الولايات المتحدة أن يشرعوا في جني الأرباح من الآن، يمكن أن تنقلب اللعبة بالكامل في أي لحظة، كما أن محاولات عزل روسيا طاقويا باستخدام حلفائها لا يمكن أن تنجح إذا ما استطاعت دولة كالجزائر أن توظف موقعها بذكاء لتلعب دور الوسيط الموثوق في عملية استقرار سوق النفط، كما أن اعتراف الولايات المتحدة الأمريكية زمن ترامب بمغربية الصحراء، ورغم الاحتفالات التي واكبتها في الرباط، لم تغير من أصل المعادلة الصحراوية الكثير، وقبلها الموقف الفرنسي والألماني وغيرها من المواقف الأخرى المؤيدة للمخزن، لكن القضية الصحراوية بقيت حية وصامدة لأن الشعوب في النهاية هي من تحدد مصيرها وليست القرارات التي تتخذها هذه العاصمة أو تلك.

لنتذكر أن خيانة إسبانية أولى قد وقعت عام 1975، عندما تنازلت إسبانيا للمغرب وموريتانيا عن الصحراء الغربية، إلا أن ذلك التنازل داسته أقدام رجال الشعب الصحراوي المقاوم، بعد أن رفعوا السلاح فطردوا موريتانيا وما زالوا إلى اليوم يقاتلون المغرب.

إسبانيا لم تكن يوما مهتمة بحل صراع الصحراء الغريبة، بل هي الدولة المحتلة التي عملت جهدها لتعقيده وتحويله مشكلة مغاربية تمنع نهوض دوله وتسمم العلاقات بينها، كما أن حل قضية الصحراء الغربية يعني بالنسبة لها فتح المجال واسعا لفتح ملفات سبتة ومليلة اللتين تحتلهما، ولذلك لا يجب أن تأخذ قضية الانقلاب الإسباني أكثر من حجمها، خاصة وأن أحزابا إسبانية كثيرة ونقابات عمالية ورأيا عاما إسبانيا، يستهجن اليوم بشدة هذا التحول المريب، في انتظار أن ينقلب عليه في أي انتخابات مقبلة.

ما يهم هو أن تدرك الجزائر مصالحها ضمن هذه اللعبة الدولية القذرة، وأن تعرف كيف تستعمل ما تمتلكه من أوراق في يدها، وخاصة ورقة النفط والغاز، بحيث لا تبقى رهينة لدول جنوب أوربا (إسبانيا، فرنسا وإيطاليا)، عبر خطوط أنابيب تقيدنا أكثر مما تساعدنا، بأن توسع من آفاقها ناحية العالم الفسيح البعيد، بامتلاك قدرات للنقل البحري لتلك الثروة إلى إفريقيا وآسيا، بهدف التخلص من ابتزاز دول القارة العجوز.

شارك برأيك

هل سينجح “بيتكوفيتش” في إعادة “الخضر” إلى سكّة الانتصارات والتتويجات؟

scroll top