ماذا بعد الهجوم الإيراني على “إسرائيل”؟
-
صاروخ "خيبر" الإيراني كسر المعادلة التكنولوجية الغربية وبعث رسائله "المشفرة"
كما كان متوقعا، أقدمت إيران لأول مرة في تاريخها، على تنفيذ تهديداتها بضرب الكيان انطلاقا من أراضيها، انتقاما من استهداف قنصليتها في دمشق، وذلك بإطلاق مئات الصواريخ والطائرات المسيرة على “إسرائيل”، في ضربة مشابهة للضربة العراقية زمن صدام حسين خلال حرب الخليج الأولى عام 1991، إلا أن هذا الهجوم الكبير الذي شاركت في التصدي له عمليا سبع دول كاملة، تتقدمها الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا، إلى جانب الكيان وثلاث دول عربية أخرى للأسف، أحدث لغطا واسعا في نتائجه بعد ادعاءات الكيان أنه أسقط 99 بالمائة من تلك الصواريخ والدرونات، وفتح المجال واسعا لطرح السؤال الكبير ماذا بعد هذه الضربة الإيرانية التي يراها البعض “منضبطة” ويرها البعض الآخر “استعراضية”؟ هل ستحجم “إسرائيل” عن الرد كما تريد واشنطن لأسباب انتخابية وجيوسياسية، أم سيكون لنتنياهو رأيا آخر من شأنه أن يخلط به كل الأوراق في المنطقة في ظل استمرار العدوان الغاشم على قطاع غزة؟.
كان الحدث إذن كبيرا ليلة السبت إلى الأحد، إلى درجة أن تولت الولايات المتحدة الأمريكية حماية الكيان بإسقاط معظم المسيرات الإيرانية كما قال ذلك بايدن بنفسه، وواسعا بعد إطلاق حوالي 300 صاروخ ومسيرة، إلى درجة أن بريطانيا شاركت بسلاح الجو في الاعتراض، ومعها فرنسا التي أنزلت قوات لها على الأرض داخل الكيان للدفاع عنه، إلا أن الهجوم الإيراني مع ذلك، كان أيضا كما قال الحرس الثوري “عملية محدودة وناجحة”، لم تخلف الكثير من الخسائر المادية ولا البشرية في إسرائيل كما كان متوقعا، لكنها غيرت ملامح المنطقة، وكسرت الردع الصهيوني الغربي، ودفعت بالكيان للدخول مجددا في سيمفونية الكذب الذي أبدع فيه أيضا في أعقاب هجوم “طوفان الأقصى”، إلى القول بأنه أحبط الهجوم واعترض 99 بالمائة من الطائرات المسيرة (حوالي 170 طائرة مسيرة) والصواريخ الإيرانية (حوالي 120 صاروخا باليستيا)، بمساعدة حماته الغربيين والعرب طبعا، في محاولة لصناعة نصر استراتيجي متوهم، على الرغم من أن الأمريكان لديهم أرقام أخرى تتحدث عن نجاح أكثر من 12 بالمائة من الصواريخ والمسيرات الإيرانية في الوصول إلى الكيان، بينما تقول طهران إن نصف الصواريخ التي أطلقتها أصابت أهدافها.
وأمام تضارب هذه المعطيات، لا يمكن التسليم بأي منها، ولا بمستوى الضربة ومدى نجاحها، لأن الكيان معروف عنه، وانطلاقا من الحرب في غزة نفسها، أنه يكذب ويحاصر المعلومة العسكرية بشكل كامل، حماية للجبهة الداخلية ونفسية المستوطنين من الانهيار، كما لا يمكن في الوقت نفسه التسليم بأن نصف الصواريخ قد وصل إلى قلب الكيان كما تروج طهران ذلك، خاصة وأن الضربة كانت معلومة الأهداف والتوقيت، وسبقها تنسيق واتصالات كثيرة بين واشنطن وطهران، وهو الأمر الذي مكن “إسرائيل” وحلفاءها بمن فيهم بعض العرب للأسف كالأردن، من الاستعداد جيدا لهذه الضربة، وامتصاص قوتها قبل أن تصل حتى إلى الكيان.
صاروخ خيبر والرسالة الإيرانية “المشفرة”
وبعيدا عن هذا الحد من التضارب في نجاح الضربة الإيرانية من عدمه، فإن المؤكد أن إيران التي لم يأت ردها انتصارا لغزة وإنما ردا على استهداف مصالحها الدبلوماسية في سوريا، قد نجحت في إرسال رسالة مشفرة في غاية الخطورة لتل أبيب وواشنطن أيضا، ولو اعتمدنا الرواية الإسرائيلية القائلة بنجاح 1 في المائة فقط من الصواريخ الإيرانية في الوصول إلى أهدافها، فإن الصاروخ الذي وصل إلى أهدافه وكسر كل الدفاعات الجوية الغربية المتطورة سيكون له شأن كبير في معادلة الردع الإيرانية حيال أي محاولة إسرائيلية للرد على إيران.
ما تأكد هو أن الصاروخ الباليستي ” خيبر شيكن” أو صاروخ خورم شهر 4، الذي يعمل بالوقود السائل، بـ 16 ماخ، أي 16 ضعفا سرعة الصوت، ويصل مداه إلى ألفي كيلومتر، وبمحرك إيراني محلي، وبوزن 1500 كلغ، هو الوحيد الذي كسر الدفاعات الأمريكية الإسرائيلية المتطورة، بما في ذلك منظومة “حيتس” الاعتراضية، وكل الطائرات التي شاركت في عملية الاعتراض بما فيها طائرات أف 15 وأف 16 وأف 35، ووصل إلى ضرب القاعدة الجوية الإسرائيلية “نيفاتيم” الأكثر تحصينا، والتي انطلقت منها طائرات أف 35 لضرب القنصلية الإيرانية في دمشق.
الرسالة الإيرانية المشفرة إذن في كل هذه العملية، هي صاروخ خيبر الذي سيكون على الإسرائيليين والأمريكان، إعادة كل حساباتهم بسببه ضمن أي عملية محتملة للرد على إيران مستقبلا، لأنه سيكون بمثابة رأس حربة في أي رد إيراني واسع على الكيان في حال ما قرر الرد، وبالتالي فسيكون هذا الصاروخ من بين الأسباب الإضافية التي ستضغط بها واشنطن على تل أبيب للنظر في عواقب أي تهور قد يقوم به نتنياهو نحو توسيع الحرب، لأن مخاطر تدمير الكيان عندها ستكون مرتفعة، عندما تقرر إيران توجيه أعداد كبيرة من خيبر إلى مواقع حساسة وحيوية في داخل الكيان للدفاع عن نفسها.
وما يؤكد صعوبة اعتراض الصواريخ الإيرانية ذات السرعة الفائقة من طراز خيبر، أن الولايات المتحدة بكل ترسانتها التكنولوجية اعترفت بأنها أسقطت “صواريخ فقط”، من مجمل الصواريخ التي أطلقتها إيران، وهو رقم ضعيف جدا، خاصة وأن الولايات المتحدة استخدمت أفضل ما لديها من صواريخ اعتراضية مثل الباتريوت و”أيجيس- نظام الدرع القتالي” الأكثر تطورا، والذي هو مخصص لما يسمى “حرب النجوم” أو “الدرع الصاروخي”.، الأمر الذي يطرح أسئلة كبيرة حول قدرة إسرائيل على إسقاط بقية الصواريخ، وعلى رأسها صواريخ “خيبر شيكن”، الذي يعتمد تقنية الرؤوس الانشطارية التي يصعب إن لم يكن يستحيل اعتراضها، خاصة إذا ما اعتمدت إيران على استراتيجية إنهاك أنظمة الدفاع عبر استخدام التكتيك الروسي في أوكرانيا، خاصة وأن إسرائيل لا تتوفر على كميات كبيرة من صواريخ الاعتراض المباشر في حال استمرت حرب كهذه لأيام طويلة.
هل ترد إسرائيل؟
والسؤال الكبير الآن بعد مرور الضربة الإيرانية الذي يتردد في كل العالم، هو هل ترد “إسرائيل” بهجوم مضاد، كما يطالب بذلك التيار اليميني المتطرف داخل الكيان، قد يستهدف حتى المفاعل النووي الإيراني؟ أم أن “إسرائيل” التي احتاجت إلى حلف عسكري غربي لحمايتها، مضطرة لأن تستعيد صورة “الضحية” التي طالما تدثرت بها، باستغلال فرصة شيطنة إيران، خاصة بعد الصورة السيئة التي ظهرت بها خلال الحرب على غزة، وبالتالي تعود لحلفائها وعلى رأسهم أمريكا والاستماع إلى نصائحهم في هذا الموضوع؟.
ورغم أن إسرائيل تبدو متحفزة للرد، بعد أن قام مجلس الحرب الإسرائيلي بتخويل نتنياهو وغالانت وغانتس صلاحية اتخاذ القرار المناسب، بغرض صرف أنظار العالم عن جرائمها في غزة، واستعادة “الفزاعة” الإيرانية لتوحيد الصف الداخلي خلف نتنياهو، إلا أن الرفض الأمريكي الواضح على ما يبدو بأن تقوم إسرائيل بالرد، خوفا من أن يجر نتنياهو أمريكا للحرب المباشرة مع إيران، ورفضها المشاركة في أي هجوم على إيران، قد يلجم الكيان عن القيام بأي عملية متهورة قد تشعل المنطقة، خاصة وأن إيران هددت بشكل صارم، بأن ردها القادم على أي ضربة إسرائيلية أو أمريكية عليها سيكون شديدا وحاسما، وسيستهدف كامل القواعد العسكرية الأمريكية في المنطقة العربية وما حولها.
مصير غزة بعد الضربة الإيرانية
ويأتي بعد السؤال الكبير هل ترد إسرائيل؟ سؤال لا يقل أهمية هو ما مصير غزة والحرب العدوانية عليها بعد هذا الهجوم الإيراني؟ وهل سيستغله نتنياهو كما هو متوقع، للانتقام مما تبقى من غزة عبر تنفيذ تهديداته السابقة باجتياح رفح، وتقديمها كبديل للأمريكان عن توجيه ضربة انتقامية ضد إيران التي لا تريدها واشنطن؟.
المؤشرات الأولية تشير إلى أن الهجوم الإيراني لم يكن نصرة لغزة، وإنما لاستعادة هيبة إيران بعد ضرب قنصليتها في دمشق، وبالتالي فإن الإحباط الذي قد يشعر به الفلسطينيون وحتى بعض العرب المناصرين للفلسطينيين من نتائج هذه الضربة، قد تبدو مفهومة، ومع ذلك فقد ساهمت هذه الضربة في المزيد من إسقاط حاجز الردع الصهيوني، بعد الذي قام به الهجوم التاريخي “طوفان الأقصى”.
غير أن الإعلان عن فشل المفاوضات بين حماس وإسرائيل بالتوازي مع الضربة الإيرانية، وإعلان الموساد أن حماس تريد استغلال التوتر مع إيران، بغرض التصعيد الشامل في المنطقة، قد يؤشر إلى نوايا خبيثة داخل الكيان لتحميل الحركة تبعات فشل المفاوضات، وبالتالي الانتقال إلى قرع طبول اجتياح رفح، والذي بدأه اليمين الصهيوني مبكرا في الساعات الأولى عقب انتهاء الهجوم الإيراني مباشرة، حيث دعا وزير المالية سموتريتش أمس الأحد، إلى اجتياح رفح وفرض السيطرة الكاملة على قطاع غزة، بعد أن نجحت خطة نتنياهو على ما يبدو في تحويل أنظار العالم من غزة إلى إيران، واستعادة التعاطف الغربي ورص الصف الداخلي الإسرائيلي ومقايضة الأمريكان السماح بعملية اجتياح رفح مقابل الامتناع عن الرد على الإيرانيين.